ماذا بعد الشات جي بي تي؟

عندما قام الإنسان القديم بإشعال النار من خلال طرق حجرين ولّد ذلك إنجاز عظيم غيّر شكل الحياة للأبد، وأخذ التطور يتزايد قرناً تلو القرن، مروراً بالثورة الصناعية التي كانت ذروة التقدم وصنعت اسماً جديداً لأوروبا والغرب إلى يومنا هذا، ومع ظهور الحاسوب واختلاف أسلوب الحياة تفاقم مفهوم التكنولوجيا، وما بين خيال الأمس وواقع اليوم كانت فكرة أن تتحدث مع "آلة" تفهمك وترد عليك وكأنها إنسان ضربًا من الخيال العلمي، لكنّ اليوم يعيش العالم هذه التجربة يوميًا من خلال أدوات مثل ChatGPT، وتحوّل الذكاء الاصطناعي من كونه تكنولوجيا نادرة إلى محرك رئيسي للزخم الاقتصادي العالمي.

لكن هل هذا التحول هو نعمة اقتصادية حقيقية؟ أم أنه مجرد فقاعة أخرى من فُقاعات التقنية؟ وكيف سيؤثر ذلك على مستقبل الوظائف، والريادة، والاقتصاد العالمي؟

الذكاء الاصطناعي: ما هو ولماذا الآن؟

الذكاء الاصطناعي (AI) لم يولد حديثًا.، فالمفهوم نفسه يعود إلى منتصف القرن العشرين، لكن ما نشهده الآن هو تسارع نوعي بفضل التقدم في الحوسبة والبيانات الضخمة، والتعلم العميق، وفجأة أصبحت الآلات لا تكتفي بتنفيذ الأوامر، بل تتعلم وتتفاعل، وأحيانًا نجدها تبتكر، حتى استيقظنا في يوم ووجدنا ChatGPT بيننا، ومن أداة محادثة إلى منصة تغيير اقتصاد بمعنى الكلمة.

ما الذي يميز ChatGPT؟

القدرة على فهم اللغة الطبيعية بدرجة غير مسبوقة، وسرعة إنتاج المحتوى في ثوانٍ، وقابلية التخصيص لمجالات متخصصة (قانون، طب، تسويق، تعليم...) حتى وصل الشعور في لحظةٍ ما أنه يمكنه القيام بكل شيء وليس مجرد بديل للإنسان لإنجاز المهام، بل كفاءة وتناهي في الدقة، وبدا يضع قواعد جديد وينسف مفاهيم برمتها لنجد أنّ الكفاءة ستكون هي المرجع الأساسي في يومٍ ما بدلاً من مفهوم الخبرة الذي ظل لعقود يسيطر على العالم.
فاليوم هذه الأدوات ما تتعلمه وتتدرب عليه في أقل من ثانية يضاهي ما يتعلمه ويكتسبه الإنسان من خبرة في سنوات، وهذا بكل تأكيد يخفض التكاليف التشغيلية للشركات حيث يمكن أن تستخدمه لإنشاء المحتوى، والرد على العملاء، وتحليل البيانات، وحتى كتابة الأكواد مما يقلل من الحاجة إلى عدد كبير من الموظفين في بعض الأقسام، وبكل تأكيد رفع الإنتاجية.
فمن الممكن للعامل الواحد إنجاز عمل ثلاثة عمّال أو أكثر باستخدام ChatGPT كمساعد ذكي.

مهن وصناعات نشأت بسبب الذكاء الاصطناعي

مهندسو الذكاء الاصطناعي" (AI Prompt Engineers) هذا المسمى الوظيفي لو ذكر أمامنا منذ عقود لكانت الدهشة والاستغراب هي ردة الفعل عليه،

لكن اليوم هذه الوظيفة تعد من أعلى الرواتب في العالم لمن يتخصص بها،

وأيضاً أصبح هناك منصات تعليمية تستخدم الذكاء الاصطناعي بشكل كامل من خلال توظيف أدوات تعتمد على ChatGPT كأساس (مثل أدوات التلخيص، الكتابة الإبداعية، تحليل المشاعر)، فلم تعد القيمة في الحفظ أو التكرار، بل في الإبداع، التوجيه، والحكم الأخلاقي.

الزخم الاقتصادي: النمو السريع أم فقاعة مؤقتة؟

بناءَ على دراسات وإحصائيات أجريت من قبل العديد من المؤسسات والمجلات العالمية ومن ضمنهم Goldman Sachs توقعت أنّ الذكاء الاصطناعي قد يضيف نحو 7 تريليونات دولار إلى الناتج المحلي العالمي خلال العقد القادم، وأكثر من 300 مليون وظيفة يمكن أن تتأثر أو يعاد تشكيلها بفعل الذكاء الاصطناعي، وهذا خلق تأثير عاطفي مختلف ووجهتا نظر.

من بين متفائلون يرون أنّ الذكاء الاصطناعي سيخلق فرصًا أكبر مما يدمر، ويشبهون الموقف بثورة الإنترنت: البداية أربكت لكن النتائج كانت ثورية، ويعتبرون ChatGPT بمثابة "أداة طباعة جديدة" ستغير الفكر والإنتاج، وبين متخوفون يخشون من مركزية القوة في يد شركات تقنية قليلة، وقلقون من اختفاء وظائف دون بدائل، ويشيرون إلى فجوة المهارات الرقمية في الدول النامية مما يعمّق التفاوت الاقتصادي.

وحتى يتثنى لنا فهم الأمر دعونا نشبه ما يحدث بالمحرك البخاري، فكيف غيّر المحرك البخاري قواعد العمل والإنتاج في الثورة الصناعية، يغيّر الذكاء الاصطناعي اليوم قواعد المعرفة والقرار، ففي الماضي كانت الآلة امتدادًا للقوة البدنية، أمّا اليوم الذكاء الاصطناعي هو امتداد للذكاء البشري بل وأحيانًا منافس له، وهذا يدعونا للتساؤل هل نحن مستعدون لإدارة عقول صناعية تعمل بسرعة الضوء؟

في النهاية

إنّ الذكاء الاصطناعي قد يكون أعظم مساعد للمبتكرين، ومن جانب آخر أكبر خطر على الأشخاص، فتطوير البنية القانونية والأخلاقية من خلال قوانين واضحة لضمان الشفافية وعدم التحيز في قرارات الذكاء الاصطناعي، وحماية الخصوصية وعدم استخدام البيانات بطرق مسيئة، والاستثمار في التعليم المواكب وتدريب جيل جديد على التعامل مع أدوات الذكاء الاصطناعي بدلًا من الخوف منها، وخلق نوع من الوعي العام اتجاه أدوات الذكاء الاصطناعي سيساعد في تقليل الخطر الناتج عنهم.

المستقبل ليس آليًا بالكامل، ومهما قلّ توظيف البشر لا يمكن الاستغناء الكلي عنهم وعلى أقل التقدير من باب الاشراف العام، ورغم كل ما يقال عن الذكاء الاصطناعي يظل الإنسان في قلب المعادلة، ChatGPT وأمثاله ليسوا بدائل للعقول البشرية بل أدوات لتوسيع قدراتها، والاقتصاد الذي يحتضن هذه الأدوات هو الاقتصاد الذي سيزدهر، وعلى الصعيد الشخصي يبدأ الأمر والخيار لنا، فنحن في غايتك نطرح التساؤلات دوماً ونردد ماذا نريد أن نكون في هذه اللحظة الحاسمة: متفرجين؟ أم صانعي المستقبل؟

Alaa Dawoud
Alaa Dawoud

Alaa Dawood, a Palestinian computer systems engineer with a deep passion for writing. I'm a novelist and scriptwriter with several published works.

المقالات: 4

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *